سورة الأحزاب - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا(34)}
قوله تعالى: {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ...} [الأحزاب: 34] أي: نساء النبي {مِنْ آيَاتِ الله...} [الأحزاب: 34] أي: آيات القرآن الكريم {والحكمة...} [الأحزاب: 34] أي: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو: أن عطف الحكمة على آيات الله من عطف الصفة على الموصوف، لكن القول الأول أَوْلَى ما دام أن الأمر فيه سعة.
ومعنى {واذكرن...} [الأحزاب: 34] قلنا: إن الذكْر استحضار واستدعاء معلومة من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور، والمعنى: استحضر ذِكْر الله واجعلْه على بالك دائماً؛ لذلك قال تعالى: {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ...} [العنكبوت: 45] أي: أكبر من أيِّ عبادة؛ لأن العبادات كما ذكرنا تحتاج إلى استعداد، وإلى وقت، وإلى مشقة، وإلى تفرُّغ وعدم مشغولية.
أمَّا ذكر الله فهو يجري على لسانك في أيِّ وقت، وبدون استعداد أو مشقة، ويلهج به لسانك في أي وقت، وعلى أي حال أنت فيه، واقرأ في ذلك قوله تعالى من سورة الجمعة: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] فما دام أن الذكر هو أنْ تجعل الله على بالك، فلا يمنعك من ذلك سَعْيٌ ولا عمل؛ لأن الذِّكْر أخف العبادات وأيسَرُها على النفس، وأثقلها في الميزان.
ثم تأمل: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر وَذَكَرَ الله كَثِيراً} [الأحزاب: 21].
فمن عظمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن باله لم يَخْلُ لحظة من ذكر ربه أبداً؛ لذلك ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال عن نفسه: (تنام عيني، ولا ينام قلبي).
ثم تُختم الآية بقوله تعالى: {إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} [الأحزاب: 34] اللطف هو الدقِّة في تناول الأشياء وحُسْن تأتِّي الأمور مهما كانت وسائلها ضيقة، وسبق أنْ أوضحنا هذا المعنى وقلنا: إن الأشياء الضارة مثلاً كما لطُفَتْ عَنُفتْ، فالحديد الذي تجعله على النوافذ ليحميك من الذئاب، غير الحديد الذي يحميك من الثعابين، أو من الناموس والذباب.. إلخ؛ لذلك نجد أن أفتك الأمراض تأتي من الفيروسات اللطيفة التي لم تُعرف.
وحُسْن التأتِّي للأمور يعني التغلغل في الأشياء مهما دَقَّتْ، فقد تُضطر مثلاً لأنْ تُدخِل يدك في شيء ضيق لتتناول شيئاً بداخله، فلا تستطيع، فتستعيَن على ذلك بالولد الصغير؛ لأن يده ألطف من يدك، أو تستعين على ذلك بآلة أدقّ لتؤدي بها هذا الغرض.
ووَصْف اللطيف يُتمِّمه وصف الخبير، فإذا كان اللطيف يعني الدقة في تناول الأشياء وحُسْن التأتِّي، فالخبرة تعني معرفة الموضع، فاللطف لا يتأتي إلا بالخبرة.
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين...}.


{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا(35)}
قلنا: إن هذه الآية نزلة تطيباً لخاطر السيدة أسماء بنت عميس زوجة سيدنا جعفر بن أبي طالب، لما حدَّثَتْ سيدنا رسول الله في أمر الأحكام، وأنها تنزل وتتوجَّه في الغالب إلى الرجال، ويبدو أنها حدَّثَتْ رسول الله في أمر النساء، وأن منهن مثل الرجال مسلمات ومؤمنات.. إلخ.
ونلحظ أن الآية بدأت بذكر الإسلام، ثم الإيمان، فأيّهما يسبق الآخر؟ ونجد إجابة هذا السؤال في قول الحق سبحانه وتعالى: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ...} [الحجرات: 14].
فالإسلام أنْ تؤدي أعمال الإسلام بصرف النظر، أكان أداؤك لها عن إيمان أو عن غير إيمان؟ لأن الإسلام تلقِّي حكم، أما الإيمان فأنْ تؤمن بمَنْ حكم، وتُصدِّق مَنْ بلَّغك هذا الحكم، وعليه فالإيمان سابق للإسلام.
لذلك جاءت هذه الآية لتفضح هؤلاء الأعراب الذين تستروا وراء الأعمال الظاهرة للإسلام، وهم غير مؤمنين بها، وقد يأتي الإيمان بعد الإسلام حين تؤدي أعمال الإسلام فتحلُو لك، وتجذبك إلى الإيمان والتصديق.
لذلك، فرح هؤلاء الأعراب لقوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ...} [الحجرات: 14] وقالوا الحمد لله؛ لأن(لَمَّا) لا تدخل إلا على ما يمكن أنْ يجيء، كأن تقول: لَمَّا يثمر بستاننا، وثد أثمرتْ البساتين، والمعنى: أنه سيثمر فيما بعد.
قالوا: لأن هناك كثيراً من الأحكام أنت لا تؤمن بالذي حكم بها إلا إذا أدركتَ حلاوتها، فالرجل الذي جاء سيدنا إبراهيم عليه السلام، وطلب منه أنْ يبيت عنده، أو: أنْ يضيفه، فسأله إبراهيم عليه السلام عن دينه فقال: إنه مجوسي، فردَّ الباب في وجهه، فعاتبه ربه في ذلك، وقال له: يا إبراهيم تريده أنْ يغير دينه لضيافة ليلة، وأنا أَسَعُه طوال عمره وهو كافر بي؟ فأسرع إبراهيم في إثر الرجل حتى لحق به ودعاه إلى بيته، فقال الرجل: ألم تنهرني منذ قليل، فماذا حدث؟ فقال: لقد عاتبني ربي فيك، فقال الرجل: نِعْم الربّ ربٌّ يعاتب أحبابه في أعدائه، أشهد ألاَّ إله إلا الله.
وقد اشتملتْ هذه الآية على عشر صفات، بدأت بالمسلمين والمسلمات، وانتهت بالذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وكأن الله تعالى أوجد مراد السيدة أسماء بنت عُميس في هذه الصفات العَشْر التي جمعتْ الرجال والنساء، واشتملت على كل أنواع التكليف، وهي برقية تدلُّ على أن حكم المرأة التكليفي مطمور في باطن الرجل، وهذه هي الأصول.
ومعنى {والقانتين...} [الأحزاب: 35] المداومون على عبادة الله وطاعته في خشوع وتضرُّع كما نفهم من قوله تعالى: {والمتصدقين والمتصدقات...} [الأحزاب: 35] أن للمرأة ذمتها المالية المستقلة وحرية التصرُّف في مالها بغير إذن زوجها إذا كانت تملك إرثاً أو هبة من زوجها أو من غيره، فلا ولايةَ عليها من أحد.
وسبق أن أوضحنا هذه المسألة في كلامنا عن الزكاة، وهذه من مَيْزات المرأة في الإسلام، حيث كانت قبل الإسلام، وحتى في الحضارات الحديثة تابعة لأبيها أو لزوجها، والصدقة تشمل الزكاة؛ لأن الله قال فيها: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين والعاملين عَلَيْهَا...} [التوبة: 60].
فالصدقة هي العنوان الأعم، ومعناها أنك صدَّقْتَ الحق سبحانه حين استأمنك على خير، فاستنبط بمجهودك وسعيك في أرض الله التي خلقها، فكأنك تُحقِّق ما كان من سيدنا أبي بكر حين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا صنع بماله الذي كسبه في الغنيمة؟ قال تصدَّقْتُ به كله، فقال له: (وماذا أبقيتَ لأهلك؟) قال: أبقيت لهم الله ورسوله. فلما سأل عمر- رضي الله عنه- قال: تصدَّقْتُ بنصفه، ولله عندي نصفه.
فكلٌّ منهما تصرَّف في ماله تصرُّفاً منطقياً يناسبه.
وإنْ كانت الزكاة يُراد بها نماء المال وطهارته، فالصدقة عطاء لا يُرَاد به إلا وجه الله وثوابه في الآخرة، فكأن المتصدِّق يريد أنْ يبرَّ، وأنْ يعترف لله المعطي بالفضل؛ لأن الله مكَّنه من مال لم يُمكِّن منه الضعيف، ولا غير القادر.
ثم ذكر الحق سبحانه تكليف الصوم {والصائمين والصائمات...} [الأحزاب: 35] والصوم أخذ حُكْماً فريداً من بين أحكام التكاليف كلها، والحق سبحانه جعل لكل تكليف من التكاليف(كادر خاص) في الجزاء إلا الصوم، فليس له(كادر) محدد، لذلك قال عنه الحق سبحانه: (إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به) يعني: قرار عالٍ فوق الجميع، فلماذا أخذ الصوم هذه المنزلة؟
قالوا: لأن الصوم هو العبادة الوحيدة التي لم يعبد بها بشرٌ بشراً أبداً، فمن الممكن مثلاً في شهادة أنْ لا إله إلا الله أنْ يأتي مَنْ يمدح آخر، فيقول له: ليس في الكون إلا أنت، أنت النافع وأنت الضار، وهناك من قال عن نفسه: أنا الزعيم الأوحيد، كذلك في الصلاة نرى مَنْ يخضع ويسجد لغير الله كما نخضع ونسجد نحن في الصلاة، وكذلك في الزكاة نتقرب إلى العظيم أو الكبير بالهدايا له أو لمن حوله.
لكن، هل قال بشر لبشر: أنا أصوم شهراً، أو يوماً تقرُّباً إليك؟ لا.. لأن الصيام للغير المماثل تذنيب للمصوم له لا للصائم؛ لأنه سيُضطرّ لأنْ يظل طوال اليوم يراقبك، أكلتَ أم لم تأكل؟
ولأن الصوم هو العبادة الوحيدة التي لم يتقرب بها بشر لبشر قال الله عنها في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به» يعني: جزاؤه خارج المقرر كما قلنا.
ومن عظمة تكليف الصوم أيضاً أن الله تعالى أحلَّ لنا أشياء، وحرَّم علينا أشياء أخرى تحريماً أبدياً، فالذي تحمَّل التكليف أَلِفَ الحلال ولم يألف ما حُرِّم عليه، ورسختْ هذه العقيدة في نفسه، حتى أن الحرام لا يخطر بباله أبداً، فلم يأْتِ على باله مرة مثلاً أنْ يشرب الخمر، أو يأكل الميتة، فهذه مسألة منتهية بالنسبة له، فأراد الله تعالى أنْ يديم لذَّة التكليف على البشر، ففرضَ الصومَ الذي يُحرِّم عليك اليوم ما كان مُحلَّلاً لك بالأمس ومألوفاً حتى صار عادة.
إذن: هناك فَرْق بين دوام العادة ولذة العبادة، وتأمل مثلاً يوم الفطر، والفطر عادة لك في غير هذا اليوم، وأنت حر تفطر أو لا تفطر، فإذا ما جاء يوم عيد الفطر أخرجك ربك من العادة إلى العبادة، وجعله تكليفاً أنْ تفطر قبل الخروج للصلاة.
ثم يقول تعالى: {والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات...} [الأحزاب: 35] جاءتْ مسألة حِفْظ الفروج بعد ذكر الصيام؛ لأن الصيام امتناعٌ عن شهوتَيْ البطن والفرج، شهوة البطن جعلها الله تعالى لحفظ الحياة بالطعام والشراب، وشهوة الفرج جعلها الله تعالى لحفظ النوع بالنكاح والتناسل.
قُلْنا: إن الله تعالى أرضى السيدة أسماء رضي الله عنها الممثِّلة لجنس النساء، فذكر أنواع التكاليف مرة للمذكَّر، ومرة للمؤنث، لكنه راعي في ذلك سَتْر المرأة، وهنا أيضاً يُراعي هذه المسألة، فيقول: {والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات...} [الأحزاب: 35] حينما تكلم عن المذكَّر قال {والحافظين فُرُوجَهُمْ...} [الأحزاب: 35] ولم يقُلْ: والحافظات فروجهن؛ لأن أمر النساء ينبغي أنْ يُسْتر وأنْ يُصَان.
ثم يقول سبحانه: {والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات...} [الأحزاب: 35] ويعود إلى مسألة السَّتْر مرة أخرى في قوله: {أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 35] فقال(لهم) على سبيل التغليب، وسَتْر المرأة في الرجل، وهذه مسألة مقصودة يُراد بها شرف للمرأة، وصيانة لها، لا إهمالها كما يدَّعي البعض، ومن هذه الصيانة ما نقوله نحن عن المرأة: معي أهلي أو الأولاد أو الجماعة، ونقصد بذلك سَتْرها وصيانتها لا إهمالها، أو التقليل من شأنها.
فكأن الحق سبحانه حينما أرضى السيدة أسماء نيابةً عن المرأة المسلمة، فذكر ما ذكر من جمع المؤنث الذي يقابل جمع المذكر، أراد أنْ يبني حول المرأة سياجاً من الستر في كل شيء حتى في التكاليف.
ونلحظ على سياق الآية هنا أيضاً أنه قدَّم المغفرة على الأجر؛ لأن القاعدة كما قُلْنا: إن دَرْء المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصلحة، والحق سبحانه يُعد لعباده الأجر على الحسنة التي فعلوها، مع أنه سبحانه لا ينتفع منها بشيء إنما يعود نَفْعها على المكلَّف نفسه، ’فهو يستفيد بالطاعة وينال عليها الأجر في الآخرة.
أما الحق سبحانه فغنيٌّ عنَّا، وعن طاعتنا، واقرأ الحديث القدسي: (يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في مُلْكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).
إذن: نحن المستفيدون من التكاليف، ففيها صلاحُنَا في الدنيا، ثم نأخذ عليها الأجر يوم القيامة.
لذلك نجد الكثير من الرسل يقولون لأقوامهم: {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ...} [الشعراء: 109] كأنه يقول: الذي أؤديه لكم من تبليغ دعوة الله في عرف الاقتصاد والتبادل يقتضي أنْ آخذَ عليه أجراً؛ لأنني أؤدي لكم خدمة، لكن ماذا سآخذ منكم أيها العرايا وأجري عالٍ لا يقدر عليه المكلَّف {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله...} [يونس: 72] فهو وحده القادر على أنْ يجازيني بما أستحق.
ووَصْف الأجر بأنه عظيم يدلُّ على كِبَر في الحجم، ونَفَاسة في الصفات، وامتداد في الزمن، وهذه هي عناصر العظمة في الشيء، وأيُّ أجر عظيم من أجر الله لعباده في الآخرة؟
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى...}.


{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا(36)}
جمعتْ هذه الآية أيضاً بين المذكر والمؤنث في {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ...} [الأحزاب: 36] فهي امتداد للآية السابقة، فهي تخدم ما قبلها، وتخدم أيضاً ما بعدها، وما به أصل السبب؛ لأنها نزلتْ في عبد الله بن جحش وأخته زينب، حين رفضا زواج زينب من زيد بن حارثة، فالمؤمن عبد الله بن جحش، والمؤمنة أخته زينب من حيث هما سبب لنزول الآية، وإلا فهي لجميع المؤمنين وجميع المؤمنات.
وسبق أنْ ذكرنا قصة زيد بن حارثة، وملخصها أنه سُرِق من أهله، وبِيع في سوق العبيد على أنه عبد، فاشتراه حكيم بن حزام، ثم وهبه للسيدة خديجة أم المؤمنين، فوهبته خديجة رضي الله عنها لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار مَوْليً لرسول الله.
وبينما هو ذات يوم بالسوق، إذ رآه جماعة من قومه فعرفوه، وأخبروا أباه أنه بالمدينة، فجاءه أبوه وأعمامه، وحكَوْا لرسول الله قصته، وطلبوا عودته معهم، فقال رسول الله: خيِّروه، فإن اختاركم فهنيئاً لك، وإن اختارني، فَمَا كان لي أنْ أُسْلِمه، فردَّ زيد وقال: والله ما كنت لأختار على رسول الله أحداً.
فأراد سيدنا رسول الله أنْ يكافيء زيداً على هذا التصرف، فنسبه إليه على عادة العرب في هذا الوقت، فسمَّاه زيد بن محمد.
فلما أراد الحق سبحانه أن ينهي هذه العادة، ومثلها عادة الظهار، نزل قوله سبحانه: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ...} [الأحزاب: 4].
فكما أن الرجل لا يكون له إلا قلب واحد، كذلك لا يكون له إلا أب واحد، وشاء الله أنْ يبدأ بمُتَبنَّي رسول الله؛ ليكون نموذجاً تطبيقياً عملياً أمام الناس، وكانت هذه الظاهرة يترتب عليها أنْ يرث المتبنَّي من المتبنِّي بعد موته، وأنْ تُحرم زوجة المتبنَّي أنْ يتزوجها المتبنِّي.
صحيح أن القضاء على هذه العادة قضاءٌ على نظام اجتماعي فاسد موجود في الجزيرة العربية، لكنه في الوقت نفسه دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبنَّي كما يتبنَّى العرب، وأن الله تعالى أبطل من رسول الله هذا التصرّف؛ وهذا سيفتح الباب أمام معاندي رسول الله أنْ يَشْمتوا فيه، وأن تتناوله ألسنتهم؛ لذلك عالج الحق سبحانه هذه القضية علاج ربٍّ بإنفاذ الأمر في نُصْرة حبيب له، فلم يُشوِّه عمل الرسول، إنما جعل فِعْله عَدْلاً، وحكمه سبحانه أعدل، فقال: {ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله...} [الأحزاب: 5].
والمعنى: إنْ كُنتم جعلتم من العدل والمحبة أنْ تكفلوا هؤلاء الأولاد، وأنْ تنسبوهم إليكم، فهذا عَدْل بشريٌّ، لكن حكم الله أعدل وأقْسَط، وشرفٌ لرسول الله أنْ يردَّ اللهُ حكمه إلى حكم ربه، وشرفٌ لرسول الله أن يكون له الأصل في المسألة، وأنه يحكُم، فيردّ الله حكمه إلى حكمه، فهذا تكريم لرسول الله.
فقوله تعالى: {هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله...} [الأحزاب: 5] يعني: أن فِعْل محمد كان قسْطاً وعَدْلاً بقانون البشر، وقد جاء محمد ليُغيِّر قوانين البشر بقوانين ربِّ البشر، وبهذا خرج سيدنا رسول الله من هذا المأزق.
أما زيد فقد عوَّضه الله عما لحقه من ضرر بسبب انتهاء نسبه إلى رسول الله، فصار زيد بن حارثة بعد أنْ كان زيد بن محمد، عوَّضه الله وأنصفه بأنْ جعله العَلَم الوحيد من صحابة رسول الله الذي ذُكر اسمه في القرآن الكريم بنصِّه وفصِّه، فقال سبحانه: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا...} [الأحزاب: 37] فَخُلَد زيد في كتاب يُتْلى، ويُتعبد بتلاوته إلى يوم القيامة.
وعلاقة زيد بن حارثة بما نحن بصدده من قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ...} [الأحزاب: 36] أنه تزوج من السيدة زينب بنت جحش، زوَّجه إياها رسول الله، وقد نزلتْ هذه الآية في زينب، وفي أخيها عبد الله.
ومعنى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ...} [الأحزاب: 36] معنى(ما كان) أي: أنه شيء بعيد، لا يمكن أنْ يَرِد على العقل، أي: أنه أمر مُسْتبعد غير مُتصوَّر، وكان المنفية تدل على جَحْد هذه المسألة، فالمؤمن والمؤمنة، ما دام أن الإيمان باشر قلبيهما لا يمكن أنْ يتركا أمر الله وحكمه، أو أمر رسوله إلى اختيارهما.
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ...} [الأحزاب: 36] وإلا فلا إيمانَ لا بالله، ولا برسول الله.
فإنْ قُلْتَ: كيف وقد أثبتَ الله الاختيار؟ نقول: هناك فرق بين اختيارٍ داخل في التكليف، إنْ شئْتَ فعلْته أو لم تفعله، وشيء في إيجاد التكليف بداية، فليس للعباد دخْل في إيجاد الشيء المكلَّف به، إنما إذا كلَّفتهم أنا، فأنا صاحب التكليف، وكونهم يطيعونه أو لا يطيعونه، فهذا أمر آخر، ليس للعباد أن يقترحوا التكليف على هواهم؛ لأن التكليف لي، ولهم الاختيار في طاعته وفي قبوله، وما دام قد ثبت أنهم آمنوا بالله وآمنوا برسول الله فكان من الواجب عليهم أنْ يرتضوا الأمر، وألاَّ يُعرضوا عنه إلى غيره.
وقصة طلاق زيد وزينب، ثم زواج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منها قصة خاضَ فيها المستشرقون والمغرضون كثيراً، وتجرأوا على سيدنا رسول الله بكلام لا ينبغي في حقه صلى الله عليه وسلم، ومن قولهم أن محمداً أحبَّ زينب وأرادها لنفسه، فأمرها أن تشاغب زيداً حتى يطلقها فيتزوجها.
ونقول لهؤلاء الأغبياء: أولاً زينب بنت جحش الأسدية هي بنت عمة رسول الله، وكان صلى الله عليه وسلم مُكلَّفاً بإدارة أموالها ورعاية شئونها، وقد نشأتْ تحت عينه، ولو أرادها لنفسه لتزوَّجها بداية، وهذا بنصِّ القرآن: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ...} [الأحزاب: 37] فإن أردت أن تعرف ما أخفاه رسول الله فخذه مما أبداه الله والذي أبداه الله قوله تعالى: {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ...} [الأحزاب: 37] وهذا يهدم كلَّ ادعاءاتكم على رسول الله.
أما قولهم بانشغال قلب رسول الله بزينب، فنقول: ولماذا تجعلون انشغالَ قلب محمد انشغالاً جنسياً؟ ولوتتبِعتُم القصة من أولها لظهر لكم غير ذلك، فحينما أرسل رسول الله مَنْ يخطب زينب ظنَّ أخوها عبد الله وأختها حَمْنة أنه جاء ليخطبها لرسول الله، فلما علموا أنه يخطبها لمولاه زيد غضبوا جميعاً، فكيف تتزوج السيدة القرشية وبنت عمة رسول الله من عبد، لكن لما علموا أن الأمر من الله أذعنُوا له ووافقوا.
ثم بعد أنْ تزوجتْ زينب من زيد تعالتْ عليه، بل وشعر أنها تحتقره لهذا الفارق بينهما، فكان زيد يشتكي لرسول الله سوءَ معاملة زوجته له، وأنها كما نقول(منكدة عليه عيشته)، وأنها تعيش معه في بيت الزوجية بالقالب لا بالقلب، لكن حبه لرسول الله كان يمنعه من طلاقها، وهو أيضاً لا يريد أن يخسر هذا الشرف الذي ناله بالزواج من ابنة عمة رسول الله.
وكان سيدنا رسول الله في كل مرة يشتكي فيها زيدٌ من زينب يقول له {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله...} [الأحزاب: 37] ولو أرادها الرسول لنفسه لقال له طلِّقها، ولوجد الفرصة أمامه سانحة.
ويجب أن نبحث هنا علاقة المرأة بالرجل، فالخالق سبحانه خلق الرجل للمرأة، والمرأة للرجل؛ لذلك نجد المرأة العربية أم إياس، وهي تُوصي ابنتها لما خطبها الحارث، تقول: (أيْ بُنية، إنك لو تُركْتِ بلا نصيحة لكنت أغنى الناس عنها، ولو أن امرأة استغنتْ عن الزوج لغني أبويها وشَدَّة حاجتهما إليها لكنتِ أغنى الناس، ولكن الرجال للنساء خُلِقْن، ولهُنّ خُلِق الرجال، وأن النصيحة لو تركتْ لفضل أدبٍ لتركت لذلك منك، ولكنها تذكرةٌ للغافل ومعونة للعاقل).
وقلنا: إن الإنسان يستطيع أنْ يعيش أفضل ما يكون من مأكل ومَشْرب وملبس ومسكن، لكنه مع ذلك لا يستغني بحال عن الزوجة والمرأة كذلك؛ لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرتُ الزوجة أن تسجد لزوجها».
لماذا؟ لأن الزوج يعطيها ما يعطيه الأب والأم والإخوة، ويزيد على ذلك مما يقدرون ولا يستطيعون.
الشاهد أن المرأة للرجل، والرجل للمرأة، مهما وضعوا من أسوار من عِزٍّ أو من جبروت، أو غيره.
إن المسألة بالنسبة لزيد كانت صعبة؛ لأن الله تعالى جعل للزواج ثلا مراحل، وردتْ في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً...} [الروم: 21].
فالأولى أنْ يسكن الزوج إلى زوجته، وأنْ يطمئن إليها، ويرتاح بجوارها حين تمسح عنه عرقه، وتحتويه بعد تعب اليوم ومشاق الحياة، فإن امتنع السَّكَن بسبب مُنغِّصات للحياة، فليكُنْ بينهما مودة تجمعهما، ولِمَ لا، وأنت حين تصاحب صديقاً مثلاً مدة طويلة تجد له مودة في قلبك، وتجد أن لهذه المودة ثمناً، فتتحمله إنْ أخطأ، وتسامحه إنْ أساء، فما بالك بالزوجة، أليست أحق بهذه المودة؟
فإذا ما فُقِدَت المودة أيضاً، فليبْقَ بين الزوجين التراحم، فليرحم كل منهما الآخر إنْ أصابه الكِبَر أو المرض، أو غير ذلك.
وقد وصل زيد مع زينب إلى مرحلة فقد فيها السَّكَن والمودة والرحمة بسبب ما بينهما من فارق.
أمر آخر، إنْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فكَّر في أمر زينب، فلماذا تعدلون به إلى التفكير في الغريزة؟ ولماذا لا تعدلون به إلى مرتبة الإنصاف، وهو الذي أرغم زينب على الزواج من زيد، وهي الشريفة القرشية، وهو العبد المملوك، فلما وضعها في هذا المأزق أراد أنْ يُطيِّب خاطرها، ويصلح ما كان منه بأنْ يضمها إليه، فتصير إحدى أمهات المؤمنين.
ثم مَنِ الذي منع رسولاً قال الله عنه أنه بشر من أن تكون له هذه الرغبة، وكل الرسل السابقين كان لهم هذه- هذا على فرض رغبة رسول الله في زينب- لكن الناس لم يُحسِنُوا الظن.
والذي يدلُّنا على أن هذه المسألة كانت ترتيباً ربانياً صِرْفاً ما نجده من الرياضية الإيمانية بين كل من سيدنا رسول الله، ومولاه زيد، وابنة عمته زينب، فقد جمعهم الثلاثة رياضة إيمانية كما نقول نحن الآن: فلان عنده روح رياضية.
يعني: يتقبل الهزيمة بروح عالية بدون عداوات أو أحقاد، فلقد انصاع الجميع لأمر الله بهذه الروح الإيمانية.
أما الذين يأخذون من قوله تعالى في حق رسوله {وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ...} [الأحزاب: 37] يأخذونها سُبَّة في حقِّ الرسول، فعليهم أنْ يعلموا أنَّ الخشية نوعان: خشية من شيء تخاف أنْ يضرك، وخشية استحياء، فالخشية في {وَتَخْشَى الناس...} [الأحزاب: 37] خشية استحياء، ويكفي أن الحق سبحانه قال في حق رسوله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ ذلكم كَانَ يُؤْذِي النبي فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق...} [الأحزاب: 53].
فالخشية هنا تعني خَوْف رسول الله من ألسنة الكفار التي ستخوض في حقه، والتي ستقول إن محمداً تزوَّج من امرأة مُتبنَّأه، لكن غاب عن هؤلاء أن الله تعالى ألغي مسألة التبني، فليس لهم حجة، وطبيعي أن يخاف رسول الله من ألسنة الكفار؛ لأنه جاء لنقض عادات وتقاليد جاهلية، وكان هو صلى الله عليه وسلم أول مَنْ تحمَّل تبعة هذا التغيير؛ لأنه جاء على يديه وفي شخصه صلى الله عليه وسلم.
وسيدنا رسول الله حين يستحي من زواجه من زينب أو من كلام الناس، فإنما يريد أنْ يبريء عِرْضه وساحته، مما يشين، وقد كان صلى الله عليه وسلم يدفع الشبهة عن نفسه دائماً، لذلك لما رآه بعض أصحابه مع امرأة، فمالوا عنه صلى الله عليه وسلم خشيةَ أنْ يتسببوا له في حرج، فناداهما رسول الله: (على رِسْلكما إنها صفية) فقالوا: نحن لا نشك فيك يا رسول الله، فقال: (إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم).
فرسول الله يريد أن ينفض عن نفسه أيَّ شبهة، يريد ألا يجعل لأحد جميلاً عليه، بأنه ستر على رسول الله.
ولا أدلَّ على حيائه صلى الله عليه وسلم من قصته مع عبد الله بن سعد بن أبي السرح، فلما دخل صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً ومنتصراً كان قد أهدر دم عبد الله بن سعد بن أبي السرح؛ لأنه نال كثيراً من رسول الله، فجاء عثمان بن عفان رضي الله عنه يستأمن لعبد الله من رسول الله- يعني: يطلب له الأمان- فما ردَّ عليه رسول الله، وكان ينتظر أن يقوم رجل من القوم فيقتل عبد الله، لكن عثمان أعادها مراراً على رسول الله حتى أنه استحي من عثمان فأمِّن عبد الله، فلما أمَّنه أخذه عثمان وانصرف من مجلس رسول الله.
فقال رسول الله لصحابته: (ألم يكن فيكم رجل رشيد يقوم إليه فيقتله؟) يعني: قبل أن يُكلِّمه عثمان فيكون قد سبق السيف العذل كما يقولون، فقام عبد الله بن بشر وقال: يا رسول الله، لقد كانت عيني في عينك، أنتظر إشارة منك لأقتله، لكنك لم تفعل، فقال سيدنا رسول الله- انظر إلى العظمة (ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين).
أذكر أنه كان لنا أستاذ، هو سيدنا الشيخ موسى شريف رحمه الله ورضي الله عنه، وكان رجلاً له مدد من الله، وقد فسر لنا هذه الآية، وكنا نذاكر دروسنا قبل أن نحضر درسه، وكان يصطفيني من بين إخواني الموجودين أمثال الشيخ حسن جاد، والدكتور خفاجة وأبي العينين وغيرهم، ليسألني عن مذاكرتنا وما وقف أمامنا من قضايا، فناداني وكان قد علم من أبي اسم أمي، فناداني بها فتقدَّمت إليه، فضربني على قفاي ضربة انحلَّتْ معها القضية التي كانت تقف أمامنا، تماماً كما تضرب الذي يعاني من(الزغطة) ضربة على ظهره فتذهب.
ولما حدَّثنا الشيخ عن قصة سيدنا عثمان هذه جاء في اليوم التالي وقال: يا أولاد، رأينا الليلة سيدنا عثمان بحيائه، فقلت له: كيف تستأمن لرجل قال في رسول الله كذا وكذا؟ فقال لي: ألاَ تعلم أن الله يحب مَنْ تاب، فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم- ولم يقل: أنا رأيت رسول الله- ما الذي جعلك تقبل شفاعة عثمان؟ فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟
فالنبي صلى الله عليه وسلم بطبيعته كان شديد الحياء.
ثم يقول تعالى: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً} [الأحزاب: 36] وهنا ثلاثة توكيدات: قد الدالة على التحقيق وبعدها الفعل الماضي، ثم المفعول المطَلق ضلالاً، ثم وصف هذا الضلال بأنه مبين.
والضلال هو عدم الاهتداء إلى الطريق المؤدِّي إلى الغاية، لكن قد يضلّ إنسانٌ طريقه، ثم يأتي مَنْ يفتح عليه ويدلُّه، أما هذا الذي يعصي الله ورسوله، فضلاله ضلال مبين لا يجد مَنْ يدلُّه، ولا مَنْ يهديه أبداً؛ لأن هذا الطريق الذي يسير فيه مُوصِّل إلى الآخرة، وليس هناك شيء من ذلك.
كانت هذه(لقطة) لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عثمان وعباد بن بشر أوضحتْ صفة الحياء في رسول الله، نعود بعدها إلى ما كنا بصدده من الحديث عن الرياضة الإيمانية التي جمعتْ بين رسول الله وكل من زيد وزينب.
وكان سيدنا رسول الله إذا غاب زيد يذهب فيسأل عنه، فذهب مرة، فرأى زينب منشغلة في أمور بيتها، وكانت زينب على حالة طيبة، فقال صلى الله عليه وسلم: «تبارك الله أحسن الخالقين» كما ترى مثلاً ابنتك في مظهر حسن، فتقول: ما شاء الله.
وكأن رسول الله أراد أنْ يُطيِّب خاطرها، أو يرفع من روحها نظير ما أجبرها عليه من الزواج بزيد، ونظير أنها تعيش معه على مضض، فلما جاء زيد قالت له: لقد جاء رسول الله وسأل عنك وقال لي: تبارك الله أحسن الخالقين، فقال لها: يا زينب أرى أنْ تكوني لرسول الله؛ لأنك وقعت في قلبه، وأرى أنْ أُطلِّقك ليتزوجك رسول الله، فبدا عليها الارتياح، وتعجبتْ كأنها لم تصدق: إذا طلَّقْتني أتزوج برسول الله، كان هذا الحوار مجرد كلام.
وبالله لو قيل هذا الكلام في غير هذا الموقف، ولواحد غير زيد لغلي الدم في عروقه، وفعل ما أفعل، إنما تأمل الرياضة الإيمانية التي تحلَّي بها زيد.
يقول تعالى في هذه المسألة: {وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ...}.

8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15